سبق لي في أيام الغفلة أن دافعت عن وزير الاتصال مصطفى الخلفي حين تم اتهامه بالتآمر مع الكاتب الأمريكي روبيرت إي لوني، والذي يعمل بشؤون الأمن القومي الأمريكي ومتخصص في الاقتصاد الدولي: اقتصاد التنمية واقتصاد الإرهاب، لمساومة النظام المغربي على ولاية أخرى أو الثورة. وبرّأت عبر مقال كتبته على نفس هذا الموقع “هنا صوتك” يوليوز 2015 الخلفي من هذه التهمة رغم زيارته المشبوهة لمكتب الكاتب لوني بواشنطن بمفرده قبيل أيام على نشر هذا الأخير مقالا على موقع فورين بوليسي بعنوان “الوقت ينفد أمام المغرب” يهدد عبره الملك حرفيا كي يسارع في إحداث إصلاحات أهمها منح صلاحيات أكبر ومدة زمنية أطول لرئيس الحكومة بنكيران.
واستبعدت أية علاقة بين زيارة الخلفي تلك وحزب العدالة والتنمية في مجمله، وبين المؤامرة التي تلعبها أمريكا للضغط على النظام المغربي لكي يحدث إصلاحات هيكلية في مؤسساته وقوانينه، تناسب خارطة الشرق الأوسط الجديد المصاغة للمنطقة ليتمكنوا من التحكم فيها وفي مواردها وأسواقها وثقافتها بشكل أبسط، فيلجؤون لتحقيق هذا الضغط مرة بالتلاعب بملف الصحراء كما وقع هذا العام، ومرة بتقارير حقوقية متسخة عن المغرب.. ومرة بمقالات كذاك الذي نشر لوني بعيد زيارة الخلفي.
استبعدت أن يكون هذا الضغط الأمريكي له أي علاقة مع حزب العدالة والتنمية لما يعرف عن أمينه العام بنكيران من تمسكن وانبطاح للمخزن بعباراته الشهيرة التي يوجهها كل مرة للملك، والتي بات المغاربة يحفظونها عن ظهر قلب، ولما هو أيضا معروف عن قياديي الحزب من “تاعياشت” الزائدة عن اللزوم لإظهار الولاء للملك، وشخصنة حربهم ضد الفساد في مستشاره وصديقه علي الهمة.. وحتى هذا أصبح اليوم يتغير مع خروج واحد من كبار قياديي الحزب، وزير النقل عزيز الرباح، يدافع عن الهمة ويحذر من مقال نشره المؤرخ المعطي منجيب يُشرِّح الحرب بين الباجدة والهمة، وصفه الرباح بمقال زارع للفتنة. لكن يبدو مع ما بدأ يطفو على السطح.. أن هناك علاقة وطيدة بين العدالة والتنمية وأمريكا… وأنه لربما كل عبارات الانبطاح والتذلل والتقرب للملك، ليست سوى تقية يحاول عبرها “إخوان” بنكيران إخفاء ما يريدون الوصول إليه.. ولو كان فقط ما يريدون الوصول إليه لا يد لأمريكا فيه ولا لأي بلد أجنبي لقلنا لربما كانت أجندة إصلاحية، لأننا نحتقر من يلجأ للغرب خادما وعميلا ثم يدعي الإسلام والوطنية!
“أي كرامة وأي عزة وأي نخوة وأي دين وأي هوية وأي ماء وجه لدى بنكيران وقادة حزبه ليواجهوا الشعب المغربي، هم الذين يأخذون الدعم من دولة تعتبر اليوم عدوة المغرب في قضيته الوطنية الأولى: الصحراء المغربية” – مايسة
ومن بين ما طفا على السطح مؤخرا وسنوضحه في الفقرات القادمة هو ظهور بنكيران المفاجئ يدافع عن الفن والفنانين، أولا بزيارته مساء الأربعاء 22 يونيو الجاري لبيت الفنانة فاطمة الركراكي بسلا مرفوقا بالخلفي صديق الأمريكان! وهللت طبعا كتائب الحزب لهذه الزيارة ولانفتاح بنكيران على الفن أمام تعجب واستغراب المغاربة.. من تصريحه حين قال للركراكي حرفيا ـ “انسي مشاكلك الصغيرة هذه وحدثيني عن المسرح”.. فأخذت الفنانة تحدثه عن أيام المسرح الزاهية وعن الفترة الذهبية لفرقة المعمورة التي كانت تشتغل بها.. وقبل توديعها طمأنها وقال لها أن يرتاح بالها لأن الغد سيكون أفضل ـ (كما نقلت مواقع مغربية) الله يا ودي.. منذ متى يهتم بنكيران بالمسرح؟ لربما منذ أن اتصلت به السفارة الأمريكية لكي يستقبل في منزله مساء نفس الأربعاء أبطال مسرحية “دير مزية” إخراج هشام الجباري، المسرحية المدعومة من طرف المبادرة الأمريكية للشراكة الشرق أوسطية بمبلغ 100 مليون سنتيم، وبشراكة مع وزارة الثقافة، تمرر رسائل لتحفيز المواطنين المغاربة على التصويت للباجدة في الانتخابات.. تمرر هذه الرسائل في قالب مرح هزلي ساخر من الانتخابات والسياسيين والمنتخبين. والتقط بنكيران صورة مع ممثلي المسرحية تم توزيعها على صفحات الباجدة على الفايسبوك ليهللوا لبنكيران محب المسرح والفانين، ويروجوا له بالكذب والبهوت للحملة الانتخابية القادمة! لنتساءل: لماذا قامت السفارة الأمريكية بدعوة بنكيران لحضور هذه المسرحية عن الانتخابات، ولماذا أصلا تمول أمريكا مسرحية تدعوا للتصويت على إسلاميي الفورميكا، بينما تجاهلت السفارة الأمريكية المسرحية التي تقدمها زيطان التي حصلت بدورها على التمويل الأمريكي! لماذا تهتم السفارة الأمريكية ببنكيران كبير البوجادة و”إخوانه”؟ مع أن بنكيران لطالما روج لوجود مؤامرة بين إلياس العماري والإمارات بتمويل أمريكي ضد الإخوان!!
لربما عدد من المغاربة لم يسمعوا من قبل عن “ميپي”، مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية، التي تقدم عبرها وزارة الخارجية الأمريكية ما تسميه ب “مساعدة” و”تدريب” و”دعم” لجماعات وأفراد تسعى لإحداث تغيير “إيجابي” في المجتمع، أو بعبارات أوضح نفهمها نحن الذين نعيش في هذه المنطقة الساخنة، تقدم تمويلا لجماعات وأفراد تسعى إلى اختراق المجتمع لتمرير خطابات وقيم وتعاليم الأمريكان عبر الجمعيات والثقافة والإعلام والفن. وهذا الكلام ليس افتراضات نابعة من عقلية المؤامرة، إنما هي تعريف للمبادرة على موقعها الأصلي موصوفة بكونها تعمل في 18 بلدا وإقليما، بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني وقادة المجتمع والشباب والنساء الناشطين ومجموعات القطاع الخاص لتعزيز جهودها “الإصلاحية” (الإصلاح بالمنظور الأمريكي طبعا)، وأن نهج مبادرة الشراكة الشرق أوسطية هو أسفل إلى أعلى والقاعدة الشعبية، بمعنى أنها موجهة لأسفل طبقات المجتمع عبر تمويل الجمعيات الصغيرة التي تتجه نحو الدواوير والمداشر التي لم تصلها أبدا قفة سيدنا، ويضيف الموقع أنها تعمل على الاستجابة مباشرة للمصالح والاحتياجات المحلية، بمعنى الدعم مقابل التمركن.
فإن كانت أمريكا صريحة في أهداف هذه المبادرات، وفي محاولات تدخلها لتوجيه السياسات والاقتصاد في دول العالم الثالث، صريحة حتى بدعمها للإخوان في المنطقة، حين نقرأ بموقع سي إن إن بتاريخ 4 غشت 2015 عن السيناتور الجمهوري راند بول الذي كان يخوض سباق حزبه للترشح في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016، وهو يدافع عن نفسه بعد اتهامه بضعف أجندته الخارجية أنه يهتم فقط بسياسات بلده الداخلية: “… لكني لست مهتما أو مؤمنا بأن كل تدخل سياسي هو جيد بالنسبة لنا… العديد من الجمهوريين الذين ينتقدون أفكاري، أيدوا حرب هيلاري كلينتون في ليبيا، وأعربوا عن تأييدهم لإرسال الأموال إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر.” فإن كانت أمريكا صريحة أنها بهذا البرنامج “ميپي”، والذي خصصت منه هيلاري كلينتون لدعم الإخوان في المنطقة يدعمون به حتى إخوان بنكيران بالمغرب عبر مقالات تبتز النظام ليزيدهم ولاية أخرى، وعبر سفارتهم التي تدعم حملة بنكيران الانتخابية بالترويج لاهتمامه بالفن، كون أمريكا ترى اليوم أنهم حزب قادر على اختراق مفاصل الدولة في الانتخابات القادمة وقادرون كقوة ناعمة على تمرير المصلحة الأمريكية من داخل دواليب السلطة! ولأمريكا الحق في تمويل مصالحها إن وجدت عملاء خونة في كل بلد! يبقى لنا أن نتعجب..
أي كرامة وأي عزة وأي نخوة وأي دين وأي هوية وأي ماء وجه لدى بنكيران وقادة حزبه ليواجهوا الشعب المغربي، هم الذين يأخذون الدعم من دولة تعتبر اليوم عدوة المغرب في قضيته الوطنية الأولى: الصحراء المغربية، وتعتبر عند مسلمي المنطقة مصدر الشر الذي أوقد نار الحرب على المسلمين منذ تصريح جورج بوش الشهير “إما معنا (أي مع الإسلام الممركن المبلقن المفرغ من كل محتوى) إما مع الإرهاب (أي عدو لنا سنحاربه وننهيه)”. فكيف لمن وصفوا أنفسهم لعقود بالإسلاميين وروجوا لأنفسهم بالدين ودعوا إلى مقاطعة التطبيع مع إسرائيل وصدحوا بآية “لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم”، وغرروا بالشعب المغربي عبر لحاهم لينهبوا أصواتنا.. كيف لهم اليوم أن يتحولوا إلى عملاء الأمريكان.. ذاك البلد الذي قال عنه الملك في خطابه الأخير بالمؤتمر المغربي الخليجي إنه ممول الفوضى الخلاقة مدمر المنطقة، وفي نفس الوقت يمارسون على النظام التقية بعاش الملك.. وفي نفس الوقت يمارسون على الشعب النفاق كون شبح ما اسمه “التحكم” هو الذي يمنعهم من الإصلاح. كنا نظن أنهم يملكون وجهين: وجها للملك والنظام ووجها للشعب.. أصبحوا الآن يملكون ثلاثة وجوه.. وابزاف!