عندما سقط أخي.. أدركت

الحقيقة 2419 فبراير 2017
عندما سقط أخي.. أدركت

مررت بتجارب كثيرة مع أشقائي الشباب – نظراً لتهوّرهم – في لحظات تعرّضهم لحوادث تسبّبت لهم بإصاباتٍ خطيرة، حتى أنّني كنت السبب في بعضها، حيث تسببت مرّتين بجروحٍ عميقة كادت تصل إلى قطع الوريد في معصم أخي الأكبر وقطع أصابع أخي الأصغر، ولكنّني كنت صغيرةً بما يكفي لينتهي الموقف بلا تفكّر ولا تبعات. وفي كثير من المواقف كنت أشعر بالقلق على إخواني وأخاف عليهم، ولكنني لم أتفكّر يوماً بشكلٍ عميق في الرابط بين أن يكون لي أخ وأخت يسري في عروقنا نفس الدم ولأجسادنا ذات الجينات، وبين ماهية العلاقة التي تربطني بهم.
ولكنّها لحظةٌ واحدة، كانت كفيلة بأن تَجعلني أُدرِك من أعماق قلبي معنى الأخوّة. تلك اللحظة التي شعرتُ فيها أنّني فقدتُ أخي. كنتُ في غرفتي أرتّب أغراضي المتناثرة، جمعت كتبي التي انتهيت من قراءتها وفاضت بها مكتبتي، وآن الأوان لكي أفسح المجال لغيرها للاسترخاء على رفوف المكتبة، استعنتُ بأخي كي يساعدني في تهيئة موضع التخزين الجديد، جاءني ملبياً رغبتي، وما لبث أن خرج من غرفتي حتى سمعتُ دويّ صرخته، كانت صرخةً عجيبةً، استغربت حينها لأنّني ظننتُ أنّه يتابع مباراةً في وضح النهار وهو أمرٌ نادرُ الحدوث، وبعدَ ثوانٍ معدودة سمعتُ صرخة الخادمة في الطابق السفلي، أيقنتُ حينها أنّ مكروهاً قد ألمّ بأحد أفراد المنزل. انطلقت مسرعةً وألقيتُ نظرةً إلى الأسفل، هالني ما رأيت…
كان أخي بطوله الفارع ممدداً على الأرض على بطنه، جذعه الأسفل على العتبات الأخيرة من السلالم، ووجهه قد ارتطم بالأرضية الرخامية رافعاً يديه باستسلام على جانبي رأسه. لم أعِ كيف وصلت عنده بسرعة خيالية ودقات قلبي كقرع الطبول في ليلة عرس. كنت أخشى أن أرفع رأسه فأجد بركةً من الدم تحته، أو أحاول إيقاظه فلا يستجيب، أو أحرّكه فلا يحرّك ساكناً. ولكن حمداً لله لم يحدث أيٌّ من هذا. بعد إغماءه بسيطة استعاد وعيه ووقف على قدميه محاولاً إدراك ما حدث.
انتهى المشهد على أرض الواقع، ولم ينتهي في مخيّلتي، ظلّ يتردّد مراراً وتكراراً، وكلّما أُعيدَ تشغيله في ذاكرتي سرت في جسدي قشعريرة من نوعٍ غريب، قشعريرة تخبرني أنّه لولا لطف الله لكنت فقدتُ أخي في لمح البصر، أستعيذ من الشيطان الرجيم وأطرد الفكرة من رأسي، وما يلبث المشهد أن يتراءى لي من جديد، وهلمّ جرة. هذه الحادثة ظلّت ترافقني لأيامٍ معدودة ولا تزال تسري في جسدي ذات القشعريرة كلّما تذكّرت ذلك اليوم.
منذ صغري وأمي تردّد على مسامعنا أنّه حين يتألم أحدنا أوّل ما يقوله كلمة “أخ” لأنّ الأخ هو الأقرب على الإطلاق، وهو الملجأ في الضرّاء قبل السرّاء، وكانت تلك محاضرتها الشهيرة حين تسمع أصواتنا تعلو ونحن نتعارك فتحاول بهذه الجملة فضّ النزاع واستعطاف القلوب لننهي الخلاف. ولكنّنا لم نكن نولّي ما تقول أهمية ونعتقد أنّها تبالغ وهدفها إنهاء المعركة، ولم أكن أعي ما تقصد. حتى كبرنا وأصبحَ كلٌ منّا يبني مستقبله على طريقته، اختلفت الجامعات والتخصصات وحتى الأشغال، لم تعد تجمعنا مدرسةٌ واحدة، ولا نذهب سوياً لنشتري القرطاسية من ذات المكتبة، ولا نحلّ واجباتنا على نفس الطاولة.
كبرتُ وأدركت معنى الأخوّة، أدركت أنّها تحمّل أخي الأكبر لمشاكساتي السخيفة بصدرٍ رحب، وأنّها سعادتي بأن أكون منبه الاستيقاظ لأخي الأصغر في غربته، وأنّها دلالنا المفرط لأختي آخر العنقود، وأنّها أسرارنا التي نتشاركها فيما بيننا ونخفيها عن والدينا. أدركت بأنّ اعتزازنا ببعضنا البعض أخوة، وأن يكون الأخ أو الأخت هو الملجأ الأوّل وقت الأزمات أخوّة، وأدركت معنى قوله تعالى ” سَنَشُدُّ عَضُدك بِأَخِيك “، وأدركتُ أخيراً بل أيقنت أنّ كلام أمي واقعٌ لا تنظير.
موقفٌ واحد جعلني أفكّر كثيراً، وقفتُ مع نفسي وأدركت كمّ الحب الهائل الذي أكنّه لإخواني وأختي، والذي يتستّر تحت رداء المزاح والضحك والمناوشات الدائمة، ذلك الحب الذي أعجزُ عن التعبير عنه بالكلام بطبيعتي، ولكن كما يقال بأن الفعل أصدق تعبيراً من الكلام. كما أحمدُ الله تعالى على نشأتنا في أسرةٍ تقدّر الجوّ العائلي، في زمنٍ أصبحَ فيه التفكّك الأسري موضة العصر، فهناك من يعيش في منزلٍ واحد مع إخوانه ووالديه ولا يعرف عنهم ولا عن أخبارهم شيئاً لأنّه “كوول”! ذلك لأنّ اهتمامه بعائلته سينزع عنه هذه السمة بين أصدقائه. الحمد لله أننا تربّينا بين والدين هما أحرص ما يكون على علاقتهما بإخوانهما وأخواتهما، فنرى في اهتمامهما بهم أصدق مثال وأفضل قدوة، لنحتذي حذوهم في علاقاتنا ببعضنا البعض.
وكما يقول المثل “مصارين البطن بتتخانق” فإنّ الخلافات وارد بين الإخوة، ولكنّ الدم أقوى من أيّ خلاف، ومشاعر الأُخوّة أنبل من أن تمحوها أو تقضي عليها مشكلة. لا أستوعب حقيقةً أن المحاكم باتت تقضي بين الأشقّاء، وأُشفق على من اكتفى بزوجته وأبنائه عن إخوانه وأخواته، فلكلّ فرد في العائلة نكهة مميزة لا يمنحها عنه فردٌ آخر، فالمشاعر التي نتلقاها من الأب تختلف عن تلك التي نحصل عليها من الأم، وكذلك بالنسبة للابن والأخ والعمة والخال.

معاملتكم لإخوانكم اليوم سترونها غداً بين أطفالكم سواءً كانت بالوصل أو بالقطيعة، كما أنّ وصل الأشقاء من برّ الوالدين، حيث أنّ العلاقات المترابطة بين الإخوة من أهم أسباب سعادة الوالدين حين يرون ثمرة تربيتهم أمام أعينهم. رزقني الله وإياكم بر والدينا بوصل إخواننا.

د.ع

الاخبار العاجلة