هل يستقيم الظل والعود أعوج؟؟

الحقيقة 249 ديسمبر 2017
هل يستقيم الظل والعود أعوج؟؟

بقلم الأستاذ حميد طولست
ما دفع بي لاعادة نشر هذه المقالة التي كتبتها قبل سنوات ، هو حادث الاعتداء المؤسف الذي لقي جراءه تلميذ يدرس بثانوية المسيرة الـتأهيلية جنان الورد بفاس مصرعه بطعنتين غادرتين ، إلى جانب تلك الأحداث المؤلمة المتكررة التي تعرض خلالها العديد من الأساتدة ..
الموضوع:
ليس العنف ظاهرة جديدة مرتبطة بالتطور الحضاري للشعوب والمجتمعات، بل أنه ظاهرة إنسانية طبيعية قديمة قدم التاريخ الإنساني، فقد بدأت مع قابيل وهابيل، بأشكال وألوان متعددة، ما يهمنا منها هنا هو ذاك العنف الجسدي والنفسي المسلط على الأحداث ، والذي هو الآخر قديم جدا من عهد الرومان حيث كان “رومليوس” كبير زعماء الروم يتخذ الأطفال عبيدا بقصره ثم يلقي بمن هزل منهم إلى الذئاب المتوحشة دون رحمة ولا شفقة، وكأن زمن صلاحيتهم قد انتهى؛ وقد عرف العصر الجاهلي أيضا عنفا خطيرا ضد الأطفال بحجة الخوف من العار، وقد أشار إليه القرآن الكريم في الآية الكريمة(( وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت)).
فمن الخطأ الاعتقاد بأن التقدم الحضاري والرقي في سلم العلم والتعلم يقضي على ظاهرة العنف وتبعاته، وإلا ما تألم المغاربة، إلا من كان به خلل، لمصاب الطفلين الذين ألقت بهما معلمة من أحد طوابق مدرسة ابتدائية بالدار البيضاء، حيث أصيب أحدهما بجروح بالغة الخطورة، ونجا الثاني بأعجوبة.
إنها حقا لمفارقة مأساوية أن يواجه الأطفال الخطر في الأمكنة التي يفترض أن تكون أكثر أمانا لهم، حيث أصبحوا عرضة للعدوان من طرف الذين من المفروض الاعتماد عليهم في رعايتهم وحمايتهم.
ولعلنا في حاجة ماسة لمثل هذه المفارقات الصادمة، لنعيد ترتيب علاقاتنا بكل ما يخص أطفالنا ” رأس مالنا” فهذا الحدث الفظيع والمؤلم، يستدعي وقفة تأملية لاستجلاء وسبر أغوار الظواهر الانحرافية الخطيرة التي عرفها ويعرفها وسطنا التعليمي، والتي تفرض تساؤلات عديدة تقلق الكثير من المربين والآباء، وتتبعهم كلما حاولوا إيجاد الجواب الشافي لها، وعلى رأسها التعامل مع الطفل كمشروع رجل وليس كطفل، لما في ذلك من محاصرة لطفولته بضوابط سلوكية استبدادية مرتبطة بمعتقدات خاطئة في التربية والتهذيب لا تساير طقوس الطفل، ولا تواكب عالمه ولا مستوى تفكيره الذي يعايش ما حوته الحداثة وجاءت به العولمة من تدفق للمعلومات ووفرة الاختراعات الإلكترونية المحفزة للطاقات الكامنة في دواخل هذا الكائن البشري الصغير أمثال ” البولتروم، والبوكيمون، والبلي ستيشن، والأنترنيت وغيرها من مغريات معلوماتية خطيرة..
إن أخطر عنف يمكن أن يواجهه الطفل في مدرسته، وعلى يد من يفترض فيهم حمايته، هو مواجهته بالأوامر والتعليمات القهرية الصارمة الممعنة في السلطوية اللامنطقية الغبية وغير المبررة، والتي يشعر الطفل معها بأنه غير مقبول لذاته كطفل متمدرس ينعم بطفولته كاملة، بل كما يشاؤه الآخرون- آباء ومعلمين- مما يمهد الطريق ويهيئ الأرضية الخصبة لوقوعه فريسة سهلة للاضطرابات النفسية التي تعرضه للشعور بالانسحاب والعدمية، وتخلق لديه ضميرا أرعنا وكراهية هوجاء للانضباط والامتثال لأي قانون أو سلطة ولكل من يمثلها، ويجعله يقف موقفا عدائيا من المجتمع المحيط به..
فالطفل ليس آلة، بل كائن حي رقيق يتمتع بحياة داخلية في غاية الغنى والحساسية، فهو روح وجسد يحتاجان إلى الاهتمام بهما معا ماديا ومعنويا، لأن إهمال إحداهما يؤدي لا محالة إلى الخلل النفسي، والركود الفكري، وتعطيل الملكات، وتدمير الميولات، ودفن كل المواهب والقدرات التي أودعها الله فيه.
فما مشاكسة الأطفال وشغبهم الذي غالبا ما يقلق الكثير من رجال التربية والتهذيب، ردات أفعال تبدأ بالعناد، فالتمرد والعصيان ثم العنف التعويضي، لإثبات ذوات مكلومة محتقرة تختزن من الطاقات المكبوتة المتطلعة الشيء الكثير، والتي لم يسمح لها بالتحرر للتعبير عن استعدادها للنماء والتطور، كما يحدث في الكثير من مؤسساتنا التعليمية الابتدائية منها والثانوية. و أسوق -هنا على سبيل المثال لا الحصر-، سوكا مشينا عانى منه تلاميذ إحدى الإعداديات الحكومية بفاس، حيث تفتقت نزعة العنف الدفينة عند أحد موظفيها التربويين الذين لم يدركوا ما عرفته عوالم التربية والتهذيب من التطور والتغيير؛ فابتكر طريقة ناجعة لإذلال الأطفال الراغبين في إعادة أو تجديد التسجيل أو الالتحاق من جديد بالمؤسسة، فقد وضع سيادته معايير خلقية -بكسر الخاء- ما أتى الله بها من سلطان من طول وعرض ولون عيون و بشرة، يعتمدها لمعرفة مقدار النباهة والذكاء الذي يخول قبول أو رفض من يرغب في متابعة الدراسة بالمؤسسة. فقد كان يشترط حضور الطفل مصحوبا بأبيه أو أمه أو وليه ليفحصه ليتأكد من توفر شروطه اللامعقولة، فيرفض ضعيف البنية، قصير القامة الشاحب السحنة أو أسودها المتواضع الثياب، بعد أن يسمعه من الوعد والوعيد والكلام النابي الذي يندى له الجبين، ولا يليق برجل التربية والتعليم، ناسيا وضاربا بذلك كل المذكرات الوزارية، وخاصة تلك تحمل الرقم 118 والتي تنص على منح المفصولين فرصة ثانية، لانقاد ما يمكن إنقاه من الضياع والتشرد، لكن صاحبنا يصر على عدم إعادة من لا يحضون بإعجابه الغبي،و لا تتوفر فيه شروطه، وبذلك احتلت المؤسسة الصف الأخير بين المؤسسات التعليمية في جهة فاس بولمان وربما على الصعيد الوطنين بأقل نسبة القبول المفصولين، ما حرم العديد من الأطفال من فرص الاندماج والنجاة، وهذا حيف وجور وعنف خطير له من العواقب والتأثير الأشد وطأة على النفس والوجدان من رمي المعلمة للطفلين البريئين من أعلى طوابق مدرسة في الدار البيضاء. وكأني بالحارس العام المسكين هذا، لا يعلم أن الحياة تحب دوما أن تشاكسَ البشر فتخطئ توقعاتكهم وتسفه تصوراتهم! ولاشك أنه قليل الإطلاع وضيق الأفق كأكثرية موظفي المؤسسات التعليمية، فلا يعلم أن الكثير عظماء العالم لم تكن طفولتهم سوى بعض ”صفر”، بمعاييرنا الساذجة، وما كانت طفولتهم تنبئ بعبقرية قادمة.
فهذا آينشتين مثلا الذي كان المعلم يطرده في طفولته من الفصل ناصحا والديه أن يسحبوه من المدرسة لأن قدراته العقلية محدودةٌ وغير قادر على التفاعل والاستيعاب لكنه تحول بفضل أمه التي آمنت أنها قادرةٌ على بقدراته فصنعت منه نابغةً غيّر مسار البشرية بنظريتيه الفذتين النسبية العامة والنسبية الخاصة.. وذاك نيوتن الذي هتفتِ قابلته بدهشة ممزوجة بحزن حينما استقبلتِ الطفلَ الهزيل يوم ولادته وفي25 ديسمبر/ كانون الأول العام ,1642: ”يا إلهي! إنه أصغر مولود رأته عيناي، انظروا، بوسعي وضعه في كوب صغير! لن يعيش هذا المخلوقُ سوى يوم أو بعض يوم!”.
لكن تُكتب له الحياة رغم حدسها. صحيحٌ أنه حمل طوال عمره جسدا ضعيفا مهزولا، وصحيحٌ أن أقرانه في المدرسة كانوا يجعلون منه مادةً لتندّرهم وسخريتهم، حتى أن أحدهم بطش به وصرعه أرضا بقبضة يده وسط ضحكات الرفاق، لكن هذا الذي حُدِسَ له بالموت المبكّر سيعمّر خمسا وسبعين سنةً، وسيحمل دماغُه الهزيلُ عقلا ليس فقط غير هزيل، ولا هو حتى عقلٌ مساو لأقرانه الأشدّاء، بل وهب مخٌّ بزّ البشريةَ حدّة وتفردًا وذكاء وألقًا. مخٌّ فائقٌ نادرُ الوجود حتى أنه سيغدو القيمةَ المعياريةَ القصوى على مقياس معدّل الذكاء (I.Q.) المعروف. الطفلُ اسمه اسحاق نيوتن الذي سينال اللقبَ الإنجليزي رفيع الشأن ”سير” لأنه سيغيّر من مسار العلوم والفيزياء بقوانينه التي وصفها آينشتين، بعد ذلك بثلاثة قرون، بقوله: ”إن كل ما عُرف من العلوم الطبيعية النظرية مَدين لنيوتن، كلها ليست سوى امتداد طبيعي لآرائه”. بل إن لقبه ”نيوتن” Newton سوف يطلق بعدئذ على وحدة القوة الفيزيائية. وهي مقدار القوة التي لو أثّرت على كيلوجرام واحد لأكسبتها سرعةً تعجيليةacceleration مقدارها مترٌ في كل ثانية.
وماذا يقول حارسنا العام عن درّة عقدنا طه حسين الذي نذره أبوه لتعلم القرآن وحفظه آملا، في أحسن الأحوال، أن يغدو مُقرئا على الموتى عند الأضرحة لقاء بعض التمر والفطائر، سوى أن القدر خبأ للدنيا عقلا تنويريا فذًّا أقدر مطمئنةً أن أقولَ عنه: ”ظالمُ العزمِ عَلِيُّ الارتقاء”، على وزن ”ظالمُ الحسنِ شهيُّ الكبرياء”، كما وصف إبراهيم ناجي حبيبتَه.
فهل يعي هذا الحارس العام وأمثاله تبعات أعمالهم؟؟؟..إنها بعض من شطحات رجال التربية، اللاتربوية والتصرفات اللامسؤولة المعتمدة على العقاب النفسي العنيف، بدلا من الرقة والإقناع أساس وتمنيع الأطفال وحمايتهم وتمنيعهم من متاهات الانحراف.لأنه بالحب والثقة والاحترام المتبادل، تربى وتهذب الأجيال ، وبالود والحنان يتبنى البناء صلبا ، ويُضمن السلام الدائم بيننا وبين الأطفال رجال المستقبل، وحدة التقدم ورافعة الرقي ومحور كل تنمية مجتمعية.
فرفقا بفلذات أكبادنا، فهم الأمانة التي أمر الله تعالى بصونها و الاحتفاظ عليها في قوله ((يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا)) صدق اله العظيم..

الاخبار العاجلة