من خلال قراءة خاطفة لعلاقة المياه الاستشفائية بدينامية اقتصاد عدة مواقع من المجال المغربي، يظهر أن منابعها كانت ولا تزال عاملاً موجهاً بآثار عدةٍ ومتداخلة، تجعل هذه المواقع بتجليات اقتصادية وواقع تفاعلات متباينة. ولعل الزائر لـ”العين الحمراء” بمنطقة اكًزناية شمال تازة لا يتردد في السؤال حول ما يخص هذه المياه المعدنية كعنصر مثير في هذا المجال الجبلي، والذي قد يسهم بدور هام في النماء المحلي إن هي توفرت شروط لازمة، منها أساساً تأطير القيمة الطبية الصحية العلاجية لهذه الثروة المحلية عِلمياً. والواقع أن هناك جملة متغيرات من شأنها الدفع بتصريف هذا المعطى الاقتصادي المجالي، وتأسيس تنمية ذات طبيعة جهوية تأخذ بعين الاعتبار الامكانات الترابية المحلية. من هذه المتغيرات ما يرتبط أولا ب”الرهان الجهوي الجديد”، كسياق لتحديث وتأهيل تراب البلاد وترسيخ ثقافة تنافسية وإضفاء انسجامية مبنية على التنوع، جاءت بما يتناغم مع تباينات مجالية ثقافية واقتصادية معبرة بالمغرب، كإطار لتجميع موارد وطاقات وتسويق المجال وتعميق النقاش والمقترح من أجل تدبير تبصري استشرافي يراهن على القرب. والجهوية كأداة لقراءة وترتيب الامكانات المحلية وابراز حاجياتها وأولوياتها، الأهم فيها هو رصدها وتفعيلها للموارد باخراجها من عزلتها وهشاشتها عبر سبل تنمية تتماشى وتوجهات المخطط الوطني للتنمية. وثانياً ما يرتبط ب”إعداد التراب الوطني” كاستراتيجية اتجهت نحو تصحيح اختلالات، ناتجة عن تراكمات تاريخية وأثر جغرافيا وفعل ونوع اقتصاد طبع المجال الوطني على امتداد عقود من الزمن. كما اتجهت نحو تأهيل المجال بجعله قابلا لاستقطاب كل أشكال الاستثمار.. من سياحة وصناعة وفلاحة وخدمات، هذا في إطار تنافسي ورهانات وخيارات وطنية. ويبقى أهم ما جاء في استراتيجية إعداد التراب هاته، تركيزها على ضرورة توظيف الإمكانيات الكائنة محلياً لتجاوز هشاشة مناطق فقيرة بإدماجها في التنمية، لتحسين ظروف عيش الساكنة وإحداث فرص شغل والاستفادة من الخدمات والتجهيزات الأساسية… وضمن إعداد التراب على مستوى مناطق وجهات البلاد وفي إطار اقتصاد الجبل كموارد هناك” العين الحمراء” بشمال تازة، كمجالٍ هامشٍ بحاجة لإدماجٍ ضمن مسلسل نماءٍ اقتصادي جهوي ووطني. من خلال سياسة تدبير وآليات استغلال تخص مؤهلات وموارد المنطقة، والتي من شأنها رفع قدرة تنافسية هذا الجبل عن طريق استثمار مدخراته كما بالنسبة لمياهه المعدنية الاستشفائية، وحتى يكون بأثر مفيد على الانسان والمجتمع والاقتصاد، وينتقل من وضع مجال جبلي هامش إلى خزان فاعل مساهم في التنمية.
إن جهة فاس- مكناس التي ينتمي إليها جبل “العين الحمراء”، تتوفر على حواضر كبرى بمؤهلات بشرية تقنية وتنظيمية عالية، من شأنها أن تكون رافعة ومنطلقاً وقطباً لمسلسل تنمية جهوية واعدة. إلا أن بناء اقتصاد جهوي قوي تكاملي لا يمكن أن يتحقق دون أخذ موارد الأرياف بعين الاعتبار، ودون إعداد جيد وتهيئة وتفعيل لموارد الجبال والبوادي بالجهة ومنها المياه المعدنية كما “العين الحمراء” غير بعيد عن مركز أكنول شمال تازة، حيث مقدمة جبال الريف بارتفاع متوسط ومناخ متوسطي وشبكة أودية صغيرة بجريان دائم” واد تازماشت”، وغطاء نباتي متباين بأعشاب طبية رفيعة إضافة لأشجار مثمرة كاللوز والزيتون والكروم.
من الوجهة الطوبونيمية “العين الحمراء” نسبة لرواسب حمراء تظهر على مجرى المياه، بسبب ارتفاع نسبة الحديد التي تحتوي عليها مياه العين. إنما وعلى إثر زيارة تاريخية للمنطقة صيف 1956، فقد اختار لها السلطان محمد بن يوسف إسم “عين الرحمة” في إحالة رمزية منه رحمه الله على بعدها الشفائي. وخلال أربعينيات القرن الماضي زمن الحماية الفرنسية ونظرا لقيمة هذه المياه المعدنية، حاول المستعمر تهيئتها ونقلها إلى موقع مجاور لمركز العين لإنشاء معمل خاص بتعبئتها في قارورات، إلا أن رفض السكان حال دون تحقيق ذلك، على اعتبار أن هذه المياه هي مصدر عيشهم وسقي زراعتهم، رغم ما مارسه”روك” المقيم الفرنسي بأكنول آنذاك من عنف لفرض الأمر الواقع عليهم. وتجدر الإشارة الى أن هذه المياه لم تخضع لعملية تحليل علمية دقيقة لفهم وتحديد قيمتها صحياً وطبياً، وحتى وإن كانت هذه العملية قد تمت فليس هناك ما يثبت من وثائق. مع العلم أن المنطقة في تاريخ المغرب الراهن هي عنوان ساطع لمقاومة عنيفة وكفاح مسلح وجيش تحرير خلال فترة الحماية بدليل “مثلت الموت” الشهير، ما قد يكون من الأسباب التي حالت دون استغلال السلطات الاستعمارية لهذا المورد الطبيعي. إلا أنه خلال نفس الزيارة الملكية للمنطقة تكريما لأرواح شهداءها وبعدما زار السلطان “العين الحمراء” واستمع لشروحات عن أهميتها الصحية، تم إصدار إعلانات تعريفية بها في الإذاعة الوطنية كحامة استشفائية، وهو ما كان وراء بداية انتعاش سياحي بالمنطقة نظرا لِما كان يصلها يومياً من زوار عن مناطق مجاورة خاصة منها الناظور ومليلية وتازة .. ونظرا لغياب بنيات تحتية سياحية وأمام إقبال الزوار، كان يتم الاعتماد على نصب خيام لإيواء هؤلاء بجوار العين إلى جانب قليل من الدور التي كان يتم كراؤها.
وهذه الحركية السياحية الاستشفائية بالمنطقة مع بداية الاستقلال، سمحت بإحداث أول فندق من طرف جماعة أجدير كان يحمل إسم”العين الحمراء” عام 1958 وقد ظل يشتغل الى غاية 1968. كما تم تعبيد جزء من الطرق المؤدية إلى العين الحمراء عام 1960 وبناء مستوصف بها عام 1963 وتجهيز منبع المياه بقبة وقناة من قِبلِ صندوق الانعاش الوطني عام 1972، وتزويد مركز العين الحمراء بمولد كهربائي عام 1974 إلى أن تمت كهربته عام 1989. وقد حاولت جماعة أجدير جلب هذه المياه المعدنية من منبعها إلى مركز الجماعة عام 1974، إلا أنها فشلت لاسباب عدة بعضها لايزال قائما لحد الآن. ووعياً بما يمكن أن يسهم به فعل المجتمع المدني لفك العزلة عن الموقع، تكونت عام 1988 “جمعية العين الحمراء” التي كانت وراء سلسلة انجازات محلياً شملت قناطر وماء صالح للشرب وأنشطة اشعاعية وتعريفية… كما تكونت “جمعية اكًزناية للثقافة والتنمية” عام 1998 ناهيك عما شهدته المنطقة من اسهامات لفعل المجتمع المدني خلال السنوات الأخيرة، كل ذلك من أجل توسيع وتنويع ورشِ تنميةٍ بمنطقةٍ لا تزال دون المرغوب في ما منشود رغم كل الجهود التي استهدفت إبراز مؤهلاتها وتسويق مياهها المعدنية.
وإذا كان المغرب بلد منابع معدنية عدة بحكم تكوينه الجيولوجي وحركية مياهه الباطنية، فإن جزءاً محدوداً فقط من هذه المياه هو المستغل بعد إخضاعه لتحاليل علمية سمحت بالتعرف على مكوناته وإثبات أهمية مياهه صحياً واستشفائياً، وهو مر الذي جعل عدداً من هذه المنابع المعدنية يتحول إلى مراكز سياحية نشيطة بدرجات متفاوتة حسب فترات السنة، الأمر والوضع الذي تأمل إليه “العين الحمراء” بتازة (أجدير)، التي لا تزال بواقع مجالي إنمائي باهت المساهمة في الاقتصاد محلياً اقليمياً وجهوياً. يذكر أن نسبة ملوحة مياه للعين الحمراء تصل إلى 2,17 غرام في اللتر الواحد، أما صبيبها فهو غير ثابت يصل إلى 1,14 لتر في الثانية، متأثراً بما هو مناخي والذي يجعله يتباين بين فصل آخر. وحول القيمة الطبية العلاجية لهذه المياه فهي تحتوي على الكالسيوم والمانيزيوم والصوديوم ثم الحديد، هذا في غياب تحاليل علمية دقيقة وحديثة العهد. مع أهمية الاشارة الى أن ما هو متداول شعبياً هو أن مياه العين الحمراء هي بفوائد كبيرة في علاج أمراض الجهاز الهضمي و الكبد و فقر الدم…
يذكر أن حركية سياحة مركز “العين الحمراء” على تواضعها، ترتبط أساسا بقيمة مياهه الاستشفائية، رغم ما تعرفه من تغير في لونها بعد إخراجها لبعض الوقت (إحمرار، ملوحة..). وتسهم سياحة الاستشفاء هذه خلال فترة الصيف أساسا في إنعاش ما هو تجاري ودور كراء ووسائل نقل..،علما أن استقطاب الزوار لا يزال داخليا وضيقاً يرتبط بمناطق شمال البلاد وشمالها الشرقي بحكم العامل الجغرافي والاجتماعي..وأن مساهمة الأجانب في حركية سياحة العين الحمراء لاتزال ضعيفة جدا لأسباب منها، نقص الإشهار وغياب تصنيف دقيق لأهمية المياه كذا بنية تحتية سياحية داعمة من فنادق ومقاهي عصرية ومسابح و مطاعم .. إلى جانب صعوبة مسالك الطرق وغياب كفاءات وكيفية تسويق المجال.
ولعل من شأن تحديدٍ وكشفٍ دقيقٍ لمكونات هذه المياه المعدنية، أن يرفع من وضع وواقع قيمتها الاستشفائية، عوض ما يلاحظ من قصور وتردد في الدفع بالتعريف بهذه المياه المعدنية، بحيث فهم دواعي وحالات استعمالها أمر أساسي لتهيئة شروط تفعيلها، كمورد سياحي ترابي مهجور في حوزة اقليم تازة وجهة فاس- مكناس. عِلماً أن تفعيل العين الحمراء يتوقف على جهد الجميع كل من موقعه، دولة قطاع خاص جماعة محلية مصالح معنية اقليمية وجهوية مجتمع مدني وإعلام…مع ما يمكن أن يسهم به عمل الثقافة الوظيفي كتقاليد احتفاء موسمية من تعريف بالمنطقة وتسويق للمجال. فضلا عما تتوفر عليه المنطقة من جالية مقيمة بالخارج، يمكن الرهان عليها ككفاءات وموارد مادية ولامادية في الاستثمار واخراج مياه العين الحمراء من واقع عزلة الى سوق وتسويق. دون نسيان ما يمكن تسهم به الجهة والجهوية الجديدة، في إنعاش اقتصاد سياحة هذه المياه عبر الإسراع بتحليلها وإشهارها وتسهيل الاستثمار فيها وإبرام شراكات مع جماعات محلية معنية بها. هذا في اطار تنمية اقتصاد مجالات جبلية خامة، وتنويع العرض السياحي للبلاد الى جانب ما توفره شواطئها ومغاراتها ومآثرها التاريخية وإرثها الثقافي ومنتزهاتها الطبيعية…من قيمة مضافة. ويبقى أن الرهان السياحي الذي يروم حسابات منشودة لدى الجهات الوصية، يقتضي تعبئة كل الموارد الكائنة عبر تدخلات تجمع بين الخواص والدولة، ويقتضي فك العزلة عما يملكه المغرب العميق من مدخرات سياحية واعدة تجمع بين تباين مجالي وتنوع داعم يخص جبالا وصحراء وقرى نائية ومغارات…ومياه معدنية مغمورة كما حال “العين الحمراء” التي لاتزال تئن تحت رحمة ربها وتأمل الى حين…
عبد السلام انويكًة.. باحث