شكل اعتقال الزميل توفيق بوعشرين، والطريقة التي تم بها ونوع التهم التي وجهت له، صدمة حقيقية ليس فقط لجسم مهنة المتاعب، ولكن لكل مواطن له حد أدنى من متابعة الشأن السياسي والإعلامي بالمغرب. ومصدر الصدمة في “قضية بوعشرين” يرجع إلى صعوبة تصور اجتماع صفات الإعلامي المثقف الحقوقي السياسي المعارض، وشبهة ممارسات صادمة يتابع من أجلها أمام القضاء من بينها “الاغتصاب” و”الاتجار بالبشر”! والاعتبارات السابقة أطلقت ديناميكية من الجدل السياسي والحقوقي والقانوني والأخلاقي مند لحظة إعلان اعتقال الزميل بوعشرين من مقر عمله. هل يتعلق الأمر بملف جنائي خالص يتعلق بتوفيق بوعشرين الإنسان؟ أم يتعلق بملف سياسي بإخراج قضائي يتعلق بالإعلامي المزعج؟ توفيق بوعشرين، قبل أن يكون إعلاميا مثقفا مزعجا فهو مواطن وإنسان، يخضع للقانون والمساءلة، وله حقوق ينبغي احترامها. وفي هذا البعد البشري والمواطني ينبغي محاكمة بوعشرين كما يحاكم أي مواطن يشتبه في أنه اقترف ما يشتبه في أن بوعشرين اقترفه. لكن الواقع أننا لسنا أمام شخص “عادي”، بل أمام شخصية عمومية من حيث الموقع الاعتباري الذي لها. ومعلوم أنه في مثل هذه الحالة فكل تمييز، إيجابي أو سلبي، في تدبير ملف مثل هذه الشخصيات لا يكون له سوى تفسير واحد، وهو أن الوضع الاعتباري لتلك الشخصية هو “زاوية المعالجة” والمنطلق في التعاطي مع ملفه وقضيته. ولا يختلف اثنان في أن بوعشرين، بخط تحرير منظومة الإعلام التي يشرف عليها، وبآرائه التي يؤطر بها قواعد حزبية هامة، وجزء من الرأي العام، وباختياراته السياسية في كل ذلك، له من الأعداء والخصوم الشيء الكثير. سواء في دائرة الإعلام، أو في دوائر الاقتصاد والمال أو في دوائر السياسة والسلطة. ورغم أن إيجاد حجج مباشرة عن الطابع السياسي لـ”قضية بوعشرين” أمر معقد وصعب، غير أن ما كشفته التطورات يبرز عناصر لا تقرأ عادة إلا بكونها ذات خلفية سياسية في مثل تلك القضية. ومن هذا المنطلق لا نجد أي تفسير أو مبرر آخر للتمييز السلبي الذي سجله الدفاع حول تدبير قضية بوعشرين، سواء على مستوى عدم احترام المساطر في اعتقاله، والقيام باقتحام مقر عمله وحجز معدات دون إذن مكتوب، ومتابعته في حالة اعتقال مع توفره على كل الضمانات، كما في إحالته على غرفة الجنايات مباشرة دون المرور بقاضي التحقيق وهو يتابع باتهامات تقتضي ذلك، مع رفض طلبه بإجراء مواجهة بينه وبين مدعيات الاغتصاب، وعدم تناسب التهم مع مضمون الشكايات، وغير ذلك مما سجله الدفاع وأعلن تفاصيله في الندوة المشار إليها سابقا. ورغم أن ما تمت الاشارة إليه يبقى قراءة يحكمها ما يحكم مثل تلك القراءات من النسبية، فهناك على الأقل أمران حيويان، لا يمكن استبعاد الخلفيات السياسية في “قضية بوعشرين” دون التحقيق فيهما. الأول يتعلق بتصريحات للمتهم لا يمكن إلا أن تعزز الطابع السياسي للقضية، والثاني يتعلق بلغز هوية المحجوزات في مكتبه. وفيما يتعلق بتصريحات الزميل بوعشرين، فقد نقل عنه دفاعه في الندوة المنظمة يوم الثلاثاء 27 فبراير قوله إنه طُلب منه في الفترة الماضية، عدم الكتابة عن شخصيتين سياسيتين بارزتين في المغرب، إحداهما يُراد لها الأفول، والثانية يراد لها أن تبرز. وأضاف الدفاع أن بوعشرين يعتبر أن اعتقاله هو مُحاولة لتخويف الناس. وهذا الكلام خطير للغاية ويجعل “قضية بوعشرين” قضية سياسية بامتياز، والتحقيق في هوية الجهات التي حاولت فرض حدود لكتابات المتهم من شأنه تسليط الضوء على هذا البعد من القضية. أما لغز هوية أجهزة تسجيل بالفيديو التي حجزت في مكتب بوعشرين وتتضمن مقاطع فيديو لمشاهد من الممارسة الجرمية المضنونة، فهو أمر حيوي. ذلك أنه إذا لم يكن بوعشرين هو من اعتمد تلك الأجهزة في تصوير “ضحاياه” المفترضين، كما تزعم المحاضر، ولم يكن هو من سجل و وضب مقاطع الفيديو وأعدها، فستكون جهة خارجية تمثل خصومه المفترضين هي من وضعتها للتجسس عليه من جهة، وفبركت ملفا جنائيا ضده من جهة ثانية. إن تفكيك لغز وجود أجهزة التسجيل ومقاطع الفيديو قد يسقط القناع عن “قضية بوعشرين” إما في اتجاه “إدانته”، إذا توفر فيها ما يكفي لذلك، أو في اتجاه إدانة الجهات التي تعمدت التجسس عليه وفبركة ملفه، لينقلب “سحر” القضية على “ساحرها”. لكن هل يصعب إثبات صلة بوعشرين بتلك الأجهزة والفيديوهات من عدمها؟ لا، بالتأكيد. ذلك أنه لو فرضنا أن تلك الأجهزة تدخل في ملكية بوعشرين وهو من يباشرها أو أحد من طاقمه، فمن المفروض أن تحمل بصمات مستعملها، خاصة وأن اقتحام مقر بوعشرين واعتقاله وحجز تلك الأجهزة كان مفاجئا. فلماذا لا تقوم الشرطة العلمية بفحص البصمات التي يحملها الجهاز؟ مع العلم أن “المتهم”، حسب ما صرح به دفاعه، وتم تدوينه في المحاضر حسبهم، نفى أي صلة له بتلك الأجهزة كما نفى تقني الجريدة علمه بها ولا نسبتها إلى المؤسسة التي يشتغل بها، وطالب بوعشرين، زيادة على ذلك، بإجراء خبرة علمية على البصمات. وبالطبع هوية تلك الأجهزة حيوية في القضية لكونها ترتبط بما سمي “50 شريط فيديو” مسجل بها، توثق “جرائم” بوعشرين المفترضة، وهي التي اعتمدت في التعرف على عدد من “الضحايا” المفترضات. إن عدم إثبات الصلة بين بوعشرين وأجهزة التسجيل بالفيديو المشار إليها، لا يسقط فقط مقاطع الفيديو التي قيل إنها سجلت به، وبالتالي التصريحات الاتهامية التي استخرجت بناء عليها، بل يطرح السؤال العريض عن الجهة التي ترجع إليها ملكيتها. وهنا يجد ما أوردته يومية “أخبار اليوم” من كون مقر الجريدة يخضع للتجسس بالكاميرات الخفية المزروعة في مكاتبها مند 2014 مصداقية، وتتجه أصابع الاتهام إلى فاعل خارجي يعمم الشبهة على كل أعداء وخصوم بوعشرين بمن فيهم أجهزة المخابرات، ويجعل قضيته بين يدي القضاء قضية لاستهدافه وتصفيته السياسية والمهنية مهما ثبتت ضده كل التهم. أما مقاطع الفيديو التي يفترض أنها وثقت “جرائم بوعشرين” المفترضة، فهي تحمل ألغازا لا تقل أهمية عن لغز الجهاز الذي قيل إنه سجلها. ذلك أن الخبرة العلمية التقنية أيضا ينبغي أن تبحث في التفاصيل التقنية المتعلقة بالتسجيل والتوضيب، وباستطاعة تلك الخبرة الكشف عن معطيات حيوية من شأنها الحسم في هوية مقاطع الفيديو تلك، هل سجلت بالجهاز ذاته الذي تم حجزه في مكتب بوعشرين؟ ما هي هوية الحاسوب الذي استعمل في توضيبها وإعدادها؟ في أي سياقات تقنية تم توضيبها وتركيبها؟ إلى غير ذلك من الأسئلة. لكن سؤالا كبيرا في هذا المستوى يفرض أيضا نفسه، وهو لماذا لم يتم إجراء خبرة علمية تقنية حول تلك “الأشرطة”؟ في التقدير، ومع احتمال وقوع أي انسان في أخطاء مهما كانت جسيمة وتقتضي المحاسبة والعقاب، فإن أهم لغز في “قضية بوعشرين” من الناحية السياسية هو هوية “الأجهزة ومقاطع الفيديو”. وحل لغز هوية مصدر تلك الأجهزة ومقاطع الفيديو أمر حيوي لحسم الطابع السياسي للقضية من عدمه، لأن عدم نسبتها إلى “المتهم” يضعنا أمام فضيحة سياسية ثقيلة، مهما صحت نسبة الجرائم المفترضة إلى المتهم، تساءل الدولة قبل باقي خصوم بوعشرين. ذلك أن الأمر سيعني أن الملف سياسي، وتمت فبركته على مقاس بوعشرين لا غير، والباقي سهل الاستنتاج انطلاقا من موقع بوعشرين السياسي نفسه، والذي يجعل جميع من لهم مصلحة في إسكاته، بمن فيهم الجهة التي سعت إلى رسم حدود لكتاباته، شركاء مفترضين في تلك الجريمة حتى يثبت العكس. فهل يفتح تحقيق في هوية أجهزة التسجيل ومقاطع الفيديو؟
حسن بويخف