إنهم يريدون خلق أجيال جديدة من الضباع”، هكذا صَرَخَ السوسيولوجي الراحل، محمد جسوس، في وجه السلطة السياسية إبان عهد الحسن الثاني، وهو يحذر في كلمة له من تداعيات تهميش الشباب، قائلًا”إذا كان شباب هذا البلد مهمشين، مقموعين، مكبوحين، مكبوتين، مطاردين في مختلف مرافق الحياة، فيمكننا من الآن أن نصلي صلاة الجنازة على هذه البلاد وعلى مستقبلها ..
خلق جيل جديد من الضباع فالمسألة ليست اعتباطية أو مجرد مصادفة، فهي نابعة من إرادة و عن سبق إصرار وترصد، فمن غير المنطقي أن تفشل جميع مخططات إصلاح التعليم إلا إذا كانت هناك نية مبيتة لجعلها تفشل و هناك استراتيجية مؤسسة لهذا الفعل، فلو كان المسؤولون عن تدبير القطاع معنيون لكان التعامل مع الموضوع بجدية أكبر، إلا أنهم مستفيدون من كساده بطريقة أو بأخرى، فتجدهم من المستثمرين الأساسيين في التعليم الخصوصي الذي أصبح من الروافد الهامة لمراكمة الثروة و يستفيد فاعليه من عدة امتيازات ضريبية بحجة سد خصاص المؤسسات العمومية و المساهمة في الرفع من جودة التعليم، و أبنائهم يرتادون هذه المدارس الخاصة و يكملون تعليمهم لدى دول تعرف بجودة تعليمها لذلك فمصلحة أبناء المقهورين آخر ما يشغل بالهم، و نهضة البلاد و تطورها لا تعنيهم ما داموا قد حصنوا أنفسهم في بروجهم العاجية و بعيدون كل البعد عن الأضرار التي تخلفها سياساتهم و تشريعاتهم.
منذ الاستقلال كانت السلطة السياسية في المغرب تنظر إلى المدرسة كأداة قوية للضبط الاجتماعي وتكريس التفاوتات الطبقية، وليس مثلما هو مفترض في التمدرس كحق أساسي يحصل عليه كل فرد بالجودة المطلوبة وفي ظروف متساوية تضمن تكافؤ الفرص، بحيث يتمكن الأفراد من تنمية قدراتهم ومواهبهم وبلوغ حدود إمكانياتهم العقلية والإبداعية، وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، خاصة وأن الحركة التلاميذية كانت رقمًا صعبًا في اللعبة السياسية بنشاطاتها الاحتجاجية آنذاك، في ذروة صراع القصر مع بعض الأحزاب السياسية الوطنية حول السلطة.
وعلى هذا الأساس تمت هيكلة المدرسة العمومية، كمجال يعج بالفوضى والاكتظاظ وتفتقر مناهجه التعليمية إلى جودة المحتوى، يعيد “إنتاج الأمية والجهل في أعلى مراتبهما” كما قال الأكاديمي يحيى اليحيواي، بدل أن يكون فضاء حرًا يتعلم فيه الأفراد حرية الإبداع والنقد ويغرس في نفوسهم فضول البحث والقراءة، حتى صار النظام التعليمي يحتل المراتب الأخيرة وفقًا لكل التصنيفات الدولية المعنية بالتعليم.
في حين حرصت النخب السياسية والمالية للبلد، من وزراء وبرلمانيين وأثرياء، على إدخال أبنائهم أفضل مؤسسات التعليم الخاصة في البلاد وخارجها بفرنسا، ليوفروا لفلذات أكبادهم تكوينًا جيدًا، يضمن لهم حياة عملية مريحة، تجعلهم يحافظون على الوضع النخبوي لأسرهم باستمرار بطريقة متوارثة، بينما تركوا لعامة المواطنين مدرسة عمومية لا تقدم لهم الحد الأدنى من التكوين المقبول.
مما حول النظام التعليمي في المغرب إلى أشبه بطاحونة ضخمة تنتج أفواجًا من المتمدرسين، الفاقدين للتكوين والبوصلة الأخلاقية، ليتلقفهم الشارع ويصبحوا ضحية الآفات المجتمعية المختلفة، فيتحولون بدورهم إلى مخربين للمجتمع.
وإذا كان الهاجس السياسي الأمني وراء إهمال الطبقات الحاكمة للتعليم العمومي، فإن هذه السياسة خلقت جيلًا من “الضبوعة” بتعبير محمد جسوس، ليس له الحد الأدنى من الوعي، بات يهدد استقرار المجتمع وغدًا سيكون عبئًا على الدولة نفسها.
المشكلة هنا أن الجيل الذي ستفرزه سياسة التفقير و منطق التضبيع و سياسات عشوائية بعيدة كل البعد عن الواقع المادي و الملموس للشعب المغربي ،لن يسلك أبدا طريق العقل و الحوار بعد أن يزول مفعول المخدر الذي يجعله إلى الآن غائبا عن الوعي و لازال غير مدرك لما يدور حوله، فهو لا يعرف بل لا يتقن سوى لغة العنف النابع من الحقد و الكراهية لمجتمع لم يجعله في محور اهتماماته.
بقلم : سناء الطيبي