بعيدا عن الأحياء الضيقة والأزقة الملتوية لفاس البالي، وعلى بعد خطوات من باب الكيسة (باب عجيسة) المطل على مقبرة الأشراف حيث الخضرة والسهول المنبسطة تلتقي مع الجبال لتحيط المدينة، ينتصب قصر من القصور المخزنية شرق الباب المذكور مواليا وجهه لسيدي علي المزالي ونوافذه تطل على دور فاس البالي التي تكاد سطوحها تكلمك وتحكي لك ما تضم تحتها من جواهر مكنونة إنه قصر الجامعي.
عائلة عريقة من قبيلة أولاد جامع التي كانت تنتسب لاتحادية قبائل شراكة، قبل أن ترتفع مكانة وسكانا لتصبح قبيلة مستقلة بذاتها، وهي من القبائل المخزنية التي تشكل فرقتين عسكريتين بالجيش تعرفان باسم الرحى دون احتساب العسكر. بهذا كانت تعرف هاته القبيلة العربية قبل أن يسطع نجمها بين النجوم وتكون إحدى بنات هاته العائلة زوجة ابن لسلطان البلاد وعاهل المملكة آنذاك سيدي عبد الرحمان بن هشام الذي زوج الحرة فاطمة الجامعية المعروفة بلالة الطام ابنه سيدي محمد بن عبد الرحمان، وبذلك تصاهر الجامعيون بالسلالة العلوية الشريفة، وأصبحوا فيما بعد أخوالا لمولاي الحسن الذي أصدر ظهيرا شريفا سنة 1866 يسدل فيه أردية التوقير والاحترام على دار الجامعي.
من هاته العائلة التي قضت بفاس ما يمكنها أن تصبح من العائلات الفاسية العريقة، ظهر محمد بن العربي الجامعي ابن العربي بن المختار الجامعي الذي تولى الوزارة في عهد سيدي عبد الرحمان مدة ست سنوات قبل أن يحل محله العلامة الصفار.
يعتبر محمد بن العربي الجامعي من أخوال مولاي الحسن، وهذا ما مكنه من تولي منصب عظيم هو منصب الصدر الأعظم الذي يكون مؤتمنا على شؤون الدولة خارج البلاط، هاته الصدارة كانت مدة من الزمن في بيت البخاريين الذين ينتسب لهم موسى بن أحمد أب باحماد الغني عن التعريف. عند وفاة موسى بمراكش سنة 1879 فإن ابنه باحماد ظن أنه سيتولى الحجابة والصدارة، إلا أن مولاي الحسن قد منحها لمحمد الجامعي خاله. هذا الأخير الذي قام بكل وظائفه منح نفسه بعضا من التمتع والرفاهية عبر بناء بعض الدور له ولحريمه حتى يصبح في المستوى اللائق بخال للسلطان وصدر أعظم بالدولة الشريفة، هذا ما جعله يفكر في بناء قصره العظيم بالجهة الشرقية داخل باب الجيسة حيث يمكن التمتع بالمناظر الطبيعية للنواحي دون الابتعاد عن مجاورة الحرم الإدريسي والقصر السلطاني العامر.
بدأ بناء القصر سنة 1879، وقد تم استجلاب أمهر الحرفيين في النجارة وفن الزليج وغيرهم من الصناع بالمدينة، وتم استجلاب آخرين من مكناسة الزيتون حتى أن زخرفات الغرف تكاد تنطق منمنماتها وفسيفساء الحيطان تحكي عن البذخ والعز الذي عاش فيه أهل هذا القصر وسط الحدائق المليئة بالكروم وأشجار الرمان المختلطة روائحها بأزهار أشجار البرتقال ونسيم الورود التي كان يقضي الحريم بينها أوقاتهن. في الرخاء كما في الشدة فإن الصدر الأعظم قد عينا حرسا من العبيد المخلصين ليحرسوا قصره ونواحي باب الجيسة حتى أن أهل فاس قد بالغوا في الحيطة والحذر عندما كانوا يصعدون لزيارة سيدي علي المزالي الذي كان يطل على حريم الصدر الأعظم وهذا ما كان يعرض بعض الفاسيين لتضييق من قبل الحرس.
تحت أسقف خشب الأرز المحاط بأرقى أنواع الجبس الذي ينافس تناسق ألوان الزليج على الحائط وعلى أفرشة الحرير ذات الأغصان المشجرة والحواشي المذهبة جلس أصحاب الآلة يطربون الصدر الأعظم وعائلته كما وقفت مطربات الأندلسي على الزرابي الوثيرة تمتزج أصواتهن بصوت الكروان والعندليب بالعرصة التي تحيط القصر ذي الحيطان الشاهقة والنوافذ العالية.
هكذا كانت عيشة الترف بالدور المخزنية، لكن الشاعر قد حذرهم في رثائه عندما قال إن لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان، لأن الدنيا زائلة وأي نجم سطع لابد أن يحين موعد أفوله. كذلك كان الشأن للبشر فإن عائلة الجامعي قد بدأ نجمها بالأفول عندما ألم مرض عضال بالصدر الأعظم محمد الجامعي، وثقل لسانه حتى صعب عليه النطق مما جعله يولي الصدارة لأخيه الحاج المعطي الجامعي، فتولت دار الجامعي تقريبا كل الوزارة فمحمد بن الصغير الجامعي كان وزير الحرب المعروف بالعلاف في التراتبية المخزنية المغربية، وصهرهم العربي الزبدي شغال منصب أمين عام. تزامن مرض محمد الجامعي بوفاة السلطان الحسن الأول بدار اولاد زيدوح نواحي تادلة، وقد كان معه الحاجب با احماد الذي استغل الفرصة وسار بالمحلة السلطانية إلى نواحي البروج محل الأمان، فتم إعلان خبر وفاة السلطان، وتم عقد البيعة لابنه مولاي عبد العزيز الذي لم يكن قد بلغ سن الرشد بعد، وما هذا إلا من دهاء الحاجب الذي كان ما يزال طامعا في الصدارة. ورغم معارضة دار الجامعي لهاته البيعة فإن با احماد أرغمهم على القبول، وأضمر كل منهما ما أضمر.
كان من المفترض أن تحط الإيالة السلطانية بالحضرة الفاسية، وهو ما كان يطمع فيه دار الجامعي لكي يحشدوا علماء فاس وشرفاءها وأنصارهم لينقلبوا على با احماد ويجردوه من منصبه ووينكلوا به وبأتباعه. إلا أن الحاجب الذي ترعرع بدار المخزن فقد طلب من السلطان مولاي عبد العزيز أن يمر على مكناسة الزيتون حيث البخاريون أنصار با احماد، ومنهم باشا مكناس الذي خرج لملاقاة السلطان واستضافته حتى يشرف مدينته، وهذا ما سهل الأمور أمام الحاجب أحمد بن موسى مما سمح له بإهانة الجامعيين عند حضورهم بين يدي الملك والتنكيل بهم، فبعث كل من الحاج معطي ومحمد الصغير إلى سجن تطوان حيث لقيا أشد أنواع العذاب، وأي عذاب أشد من أن ينحط المرء بين الجموع ويصبح ذليل قوم بعد أن كان عزيزهم.
إذا سلم محمد الجامعي من تنكيل با احماد وعاش بعده مدة من الزمن في قصره بفاس فإنه أسلم الروح سنة 1915، وتسلم القصر الورثة مدة من الزمن قبل أن تشتريه الشركة العامة العابرة للأطلسي سنة 1929، بعد ست سنوات من الأخذ والعطاء بين ورثة الجامعي وحريمه اللائي رفضن الخروج من الحريم وفضلن العيش على الذكريات بدلا من مواجهة تقلبات الحياة القاسية.
تم ترميم القصر سنة 1927 على يد المهندس الفرنسي إدموند كوغدان (Edmond Gourdain) وبعد تسلمه من ورثة الجامعي فقد تم تحويله إلى فندق. وحتى سنة 1931 عانت الشركة من مشاكل فتم بيعه لشركة السكك الحديدية، قبل أن يتسلمه المكتب الوطني للسكك الحديدية سنة 1961 بعد شراء الشركة السابقة، وبقي فندقا ثم تم إغلاقه فترة من الزمن قبل أن يتم تأجيره مدة عشرين سنة لمجموعة ACCOR التي رممت القصر لتستفيد منه كفندق، إلى حين سنة 2014 عندما أنهت العقد وأغلقته حتى يوليوز من سنة 2017 عندما أعلن المكتب الوطني للسكك الحديدية أن القصر سيتم ترميمه وإصلاحه ليفتح ذراعيه للعموم بعد قرن وعقدين وثلاث سنوات من تأسيسه، وهو شامخ منتصب يحكي تاريخ عائلة دارت بها دوائر الزمن هي ودورها بفاس الإدريسية ومكناسة العلوية