لندع جانبا، خطابات التضليل ومهدئات ثقافة الاستهلاك. لنخرج قليلا ، من سرنمة إيحاءات فنادق خمسة نجوم، و الأسواق الممتازة و المقاهي المصنفة…، فمدينة فاس تفقد غناها كل يوم وتُستنزف مع كل العشاءات، هي ليست بتلك الوصلات الإشهارية أو موائد الأكل التي تغمر مطاعمها فرحا وابتهاجا بالزوار .
لنتحدث قليلا عن حظ هذه المدينة المجروحة ، فلو خرج منها سياسي ذكي و ذو كاريزما قوية كما كان الحال مع الاستقلالي السابق المثير للجدل لتغيرت جغرافية بنيتها التحتية و هدأت عواصف الاحتجاجات و التذمرمن طرف ساكنتها التي تنتظر بزوغ فجر جديد مع مجلس جماعي قادر على تدبير العاصمة العلمية للمملكة .
لكن فاس لم تعد معروفة بأصلها التاريخي ،لقد أفقدوها هويتها و أضحت غابة مخيفة تثير الرعب و الهلع لدى قاطنيها و مجازيا فقد أصبحت جسد، ينتفخ فراغا وتشوها، فاصطبغت ملامحها بقسوة جلد الذات ولما لا السادية. أهي راضية عن نفسها ؟!
هكذا، التزمت مدينة فاس مع كل صبيحة بقبح وبؤس بشريين. لم تعد، رؤوفة رحيمة. الفقر، يفتك فتكا بهؤلاء المحاصرين داخل جحور أسوارها إلى إشعار آخر. ظفر المتأسلمون بها ، وقد أدركوا جيدا بأن حرب السياسة، خسائرها فادحة وغالبا ما تنتهي لصالح الأقوياء ، فتبنوا تاكتيكا مغايرا يقوم على الوعود الكاذبة و الاتجار باسم الدين للاختراق و التذويب. وقد أعطى، ذلك بالفعل أكله وبسرعة قياسية و ها هي النتيجة اليوم على أرض الواقع مع منتخبين فاشلين تدبيريا و تواصليا …
باعتباري واحد من قاطنيها ، فلا تهمني فاس السيارات الفارهة، والفيلات الفخمة و التباهي بمطاعمها المصنفة و حاناتها المكتظة أو آخر صيحات المقاهي والعمارات التي تعانق السماء مبتهجة بتبييض أموالها …، هي مساحيق زائلة لا تصنع إنسانا ولا تهذب روح شعب مواطن ، بل زيادة على ذلك وهو الأخطر، فإنها تخفي وتضلل حقيقة تاريخ بأكمله، ينقرض بوجع صامت، فاس التي يفتك بأهلها الأصلاء عوزا قاتلا، واندثارا مقفرا للمؤسسات التي بوسعها حقا، خدمة الصالح العام وتوفير أسباب الرخاء الاقتصادي والمجتمعي ثم تجذير لبنات الغنى الثقافي لأهلها، خاصة شبابها الذي أبادته العطالة والحاجة، دون رحمة.
أين نحن من المستشفيات ؟ المكتبات؟ المصانع ؟ الأكاديميات العلمية والفنية ؟ متى تطمئن العاصمة العلمية إلى أجهزة تدبيرية، ينهض بأعبائها أناس أكفاء، يحكمهم وازع الوطنية الصادقة، يجعلون حقا فاس مدينة عالمية، بمنطق صيرورة التاريخ الأممي والحضاري، حينئذ سنتباهى بها على منوال باريس، طوكيو، برلين، لندن ومدريد…، وليس مجرد خندق خلفي ينتمي للإرث الإفريقي، دورها استقبال فئة مجتمعية تشكل أحزمة ناسفة بمحيطها.
و إن انعدام بنيات واقع عقلاني ومتحرر، أنتج منظومات القهر واستغلال بشع يكابده الفاسيون مع يوميات الرداءة في ظل اقتصاد هش جدا، زاد من فاقته الهجرة القروية المتتالية نحو فاس منذ الثمانينيات مع تأثر البوادي المجاورة لقلعة مولاي ادريس بسنوات الجفاف التي أهلكت الحرث والنسل، قياسا أيضا إلى الاختيارات الرسمية اللاشعبية التي جعلت البادية مجرد خزان كاريكاتوري لفولكلور وُظّف إيديولوجيا، حسب الأهواء والأمزجة.
يُفترض، في فاس بناء على حجمها الإعلامي، أن تكون قطبا اقتصاديا ومعرفيا ضخما، ينتج الثروة والقيم ونموذجا يحتذى به ، بخصوص ترتيب أوضاع الدولة المغربية. لكن يكفيك، القيام بجولة سريعة في بعض دروب و أزقة مدينة 12 القرن ، لتتمثل جيدا مآل، مدينة خانها حظها بل ربما ثقافة الانسحاب والقدرية، المترسخة في لاوعي أهلها : أشخاص يسدون بالكاد رمقهم بدفن رؤوسهم وسط صناديق القمامة، فتية صغار في سن المدرسة يتسولون على طريقة أطفال الهند، البرازيل، المكسيك،…، صغيرات يتعقبن بزخم حواسهن سيارات بارونات الدم البشري طمعا في رغد العيش وما لذ وطاب من جولات المطاعم والفنادق، العنف والجريمة مقابل أي شيء، سياسيون فاسدون ومفسدون حتى النخاع قد يتنكرون لأمهاتهم في سبيل المال، لصوص ولصوص ألقوا بفاس إلى جحيم شبكات لا نهائية من المصالح تعيق لا نهائيا تشكلات المجتمع المدني.