عشرات آلاف الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية وبلداتها القريبة والبعيدة، شيباً وشباناً، وأطفالاً وصبياناً، ونساءً وفتياتٍ، مرضى وأصحاء، وفقراء وأغنياء، مقيمين وزائرين، خرجوا في ساعات الفجر الأولى من قراهم وبلداتهم، وربما في ساعةٍ متأخرة من الليلة التي سبقت، مشياً على أقدامهم، وسيراً في الطرق الوعرة والمسالك الخطرة، فوق الجبال وفي الحقول والبساتين، التفافاً على الحواجز والمعابر، وهروباً من الدوريات الإسرائيلية، بنية الصلاة في المسجد الأقصى، وإحياء ليلة القدر في رحابه، والرباط في أكنافه، والاعتكاف في باحاته، والتصدي لقطعان المستوطنين وجحافل الحاقدين المتطرفين، الذين يخططون لاقتحام المسجد الأقصى يوم العاشر من شهر مايو الجاري، بمناسبة ما يطلقون عليه كذباً وبهتانا “يوم القدس اليهودي”.
تجشم الفلسطينيون عناء الوصول إلى المسجد الأقصى، إذ نصبت سلطات الاحتلال مئات الحواجز العسكرية على بوابات ومداخل ومخارج البلدات الفلسطينية، ومثلها على مداخل مدينة القدس، ليحولوا دون خروج الفلسطينيين من بلداتهم، ويمنعوهم من الدخول إلى مدينة القدس والوصول إلى بوابات المسجد الأقصى، فقد صدر قرارهم بمحاصرة الفلسطينيين والتضييق عليهم، وأعلنوا الحرب ضد سكان مدينة القدس، فأصدرت هيئاتهم العسكرية قراراتٍ بهدم بيوتهم، ومصادرة ممتلكاتهم، وطردهم من بلداتهم، وتمكين المستوطنين من بيوتهم، والحلول فيها مكانهم.
لكن الفلسطينيين كانوا قد هيأوا أنفسهم لرحلةٍ شاقةٍ قد تستغرق ساعاتٍ طويلة، وقد تعترضها عقباتٌ وتحديات، وقد تواجههم فيها مخاطر وتهديدات، وقد تبوء جهودهم بالفشل وتمنى محاولاتهم بالخسارة، إلا أنهم يصرون على التجربة والمحاولة، رغم أن الإسرائيليين جنوداً ومستوطنين يطلقون النار عشوائياً على المارة الفلسطينيين، بحجة الاشتباه بهم، ومنعهم من مهاجمة جنودهم وتهديد مستوطنيهم، إلا أن الفلسطينيين لم يعبأوا بالاجراءات الإسرائيلية، ولم توقفهم الاستفزازات محاولات منعهم أو اعتقالهم أو حتى قتلهم، إذ عقدوا النية على الدخول إلى المسجد الأقصى مهما كان الثمن، وإحياء ليلة القدر والصلاة فيه، والرباط في باحاته حمايةً له ودفاعاً عنه.
امتلأت الجبال وغصت الوديان والطرق الجبلية الوعرة، المحيطة بمدينة القدس من أركانها الأربعة، بمئات الفلسطينيين، الذين يغذون السير ويسابقون الخطى، ويشدون الهمة ويوسعون الخطوة، فتراهم يمرون على بعضهم يتبادلون السلام والتحية، ويسلمون على من يجدونهم في الطريق ممن شدوا الرحال مثلهم إلى الأقصى، ويقدمون المساعدة لمن يحتاجها، ويشجعون من أعياه المسير وأتعبه طول ووعورة الطريق.
فكانت إلى جانب الرجال والشباب والصبية المتحمسين، المرأة العجوز والحامل، والصبية والشابة، التي شدت مأزرها، وتمنطقت بالكوفية الفلسطينية، وانتعلت نعلاً خفيفاً يصلح للسير في الجبال وفي الطرق الوعرة، وقد اصطحبوا معهم أطفالهم وجاؤوا مع جيرانهم، يحملون معهم زوادتهم والقليل من الماء، ليخف حملهم وتتيسر رحلتهم، كلهم يقصدون المسجد الأقصى، ويتطلعون إلى الصلاة والرباط فيه، لهذا تهون عليهم المشاق، وتقصر دونهم المسافات، وتبدو الرحلة منحة، والمسيرة إلى القدس فرحة، يتمناها كل فلسطيني ويحلم بها، ويستعد لها ويتهيأ وكأنها رحلة حج أو مسيرة عودة.
مائة ألفٍ أو يزيدون، وقد كان من الممكن أن يكونوا مليوناً وأزيد من ذلك بكثير، لو أن العدو سمح للفلسطينيين بحرية الدخول إلى مدينتهم والوصول إلى مسجدهم، فهو بالكاد يسمح لأهلنا في الأرض المحتلة عام 1948، الذين يتهمهم بالتحريض وإثارة الشغب، وأنهم يردفون المقاومة ويدعمونها، بينما لا يسمح مطلقاً لسكان قطاع غزة، الذين يفوق عددهم المليوني نسمة، بالصلاة في المسجد الأقصى، كما لا يسمح لمئات آلاف الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية والقدس المحتلة بالوصول إلى المسجد، ولعله يحرم المقدسيين المقيمين في مدينة القدس، من حرية الدخول إلى المسجد الأقصى، فضلاً عن غيرهم، ويشترط أحياناً لدخولهم أعماراً محددة، ولايسمح لأقل منها بالدخول رجالاً كانوا أو نساءً.
رغم العقبات الإسرائيلية، والتحديات التي يفرضها الاحتلال، والإجراءات التي يتخذها ضد الفلسطينيين، فإنهم سيبقون يدافعون عن مدينتهم، ويذودون على حياض مسجدهم، ويضحون في سبيل تحرير أرضهم واستعادة مقدساتهم، ولعل العالم كله بات يدرك أنهم أبداً لا يتنازلون عن حقوقهم، ولا يفرطون في مقدساتهم، حتى ولو كانوا وحدهم، ولم ينصرهم سوى شعبهم.
ولعلهم يقومون بهذا الواجب المقدس والمهمة العظيمة، نيابةً عن الأمة كلها، فالقدس إسلامية قبل أن تكون عربية أو فلسطينية، والمسجد الأقصى ليس عقاراً ولا تراثاً، بل هو آية من كتاب الله عز وجل، وجزءٌ من سيرة رسول الله، يدافعون عنها بالأصالة عن أنفسهم، وبالنيابة عن أمتهم، فهل تنتصر الأمة لهم، وتقف معهم وإلى جانبهم، تؤيدهم وتناصرهم، ويكون لهم بما يقدمون شرف المساهمة ونبل المشاركة، أم يجبنون ويتخاذلون، ويتراجعون ويتخلفون.
طوبى لمن سكن القدس أو جاورها، ودافع عنها وحافظ على هويتها، وطوبى لمن صلى في المسجد الأقصى ورابط في باحاته، ودافع عن محرابه، وهنيئاً لمن وصل إلى مغبراً، وأحيا في ليلة القدر مؤمناً، وهنيئاً لمن سرج بالزيت قناديله، أو سَجَّرَ بماله جمر مقاومته.