سفيان ص
كلما أردت الخروج و التجول بين أزقة فاس و شوارعها تهجم عليّ الذكريات ، ذكريات الحسرة و الغبن على محياي جراء ما وصلت إليه مدينة 12 القرن ، فتراني جالسا أحتسي كوب قهوتي و تفكيري كمواطن بسيط و صحفي غيور على الشأن المحلي سارح في الأفق أتذكر أيام دراستي و أنا في مدرجات كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بظهر المهراز أرتب أحلامي المستقبلية و الوظائف الممكن أن أشتغلها بعد الحصول على الإجازة أو الماستر غير آبه أن المدينة تتخبط في المجهول .
و أنا في مدرجات جامعتي كنت أحاول أن يتفتح وعيـي السياسي حيث طرحت عشرات الأسئلة الوجودية وتفاعلت مع ما يجري في البلاد وفي العالم من احتقان منذ انطلاق شرارة الربيع العربي في 2011 ، و هكذا اعتقدت في الأول أنني سأبني مستقبلي بمدينة تستهوي السياح مُحِبّي المآثر التاريخية و الرياضات الفسيحة متناسيا أنه تم اغتيال الحاضرة الإدريسية على يد أصحاب الضمائر الميتة قبل أن أكتشف أنها بسبعة أرواح، وكل ما في الأمر أنها تغير جلدها ببراعة الأفعى مع كل استحقاقات انتخابية.
فمدينة فاس التي تعتبر مسقط العقل والوعي والقلب والروح. انقلبت موازينها و أصبحت مغضوب عليها اقتصاديا سياسيا ثقافيا و إنسانيا .
ففي بداية مشوارنا الدراسي كنا طلابا حالمين، نقضي وقتنا بين الشعارات و دراسة القوانين و الفصول و المداخل لكن خيبات الأمل تركت في نفوسنا جرحا عميقا نحاول كل يوم نسيانه .
وجوه زملاء الدراسة اختفت، جرفتها ثقوب التاريخ السوداء، لكن الأمكنة مازالت هي الأمكنة ، المدينة العتيقة لفاس بأسواقها وروائحها ودروبها الضيقة، الرصيف العطارين الصفارين البطحاء… و ساحة لافياط و فلورانس ببناياتها الكولونيالية الشاهقة، والأحياء التي يتوسع فيها العمران على أطراف مدينة مازالت أسوارها الشامخة صامدة منذ 12 القرن، مع أبوابها الكثيرة: كباب فتوح، باب بوجلود، باب سيد العواد، باب الكيسة، … ثم جامعة القرويين و مدبغة شوارة و متحف السلاح… في كل شبر من فاس معلمة تاريخية.
الأماكن لم تتغير، ساحة الصفارين مازالت تصنع فيها الأواني النحاسية رغم التراجع المهول في الإننتاجية بسبب الظروف الاقتصادية للمدينة ومقهى زانزيبار و مقهى النهضة ” renaissance”، حيث كان يجتمع السياسيون أيامَ كانت السياسة سياسة.
فاس مدينة تتبدل ببطء شديد، بالمقارنة مع شقيقاتها مراكش و طنجة و تطوان، رغم أنها تملك من المؤهلات الاقتصادية والسياحية ما لا يوجد في المدن الأخرى.
شيء ما يجعل المدينة مغضوب عليها، أو لا تحظى بما تستحقه من اهتمام في أقل تقدير، ولعل التقسيم الجهوي ، أكبر دليل على الظلم الذي تتعرض له المدينة.
لو كان لفاس من يدافع عنها في مراكز القرار، مثل الحسيمة والرحامنة، لما ارتكبت في حقها هاته «الجريمة» الإدارية و عقابها برئيس مجلس جماعي يتحامل على المدينة و عدم تحركه لاستقطاب مستثمرين تاركا الوضعية تتأزم يوما بعد يوم .
لو وجدت فاس أبناء بررة لصنعوا المعجزات من هذا التراث الإنساني الاستثنائي، لكن معظم الفاسيين الذين وصلوا إلى الوزارات والإدارات ومراكز القرار انشغلوا عن مدينتهم بأشياء أهم، من قبيل تدبير مصالحهم الشخصية وتسمين ثرواتهم و ثروات عائلاتهم. عندما نرى كيف تحولت مدينة صغيرة بمؤهلات بسيطة، مثل أصيلة و إفران و مكناس و القنيطرة و غيرهم إلى مدن بسمعة عالمية، لا يسعنا إلا أن نتحسر على مصير العاصمة العلمية.
ومن حق ساكنة فاس و تجارها و مهنييها و فعالياتها الجمعوية و إعلامها أن يسائلوا المسؤولين عن عدم التدخل بجدية للنهوض بأوضاع المدينة و استقطاب الاستثمارات التي تذهب إلى مدن أخرى نتيجة تحركات رؤساء الجهات و رؤساء المجالس الجماعية و توفير الأوعية العقارية و تخفيض الضرائب و تسهيل المساطر الإدارية عكس مدينة كنا نعتقد أنها تمرض و لا تموت لكن الهجرة القروية و سوء الظروف الاجتماعية و الاقتصادية قتلت أمال معظم الفاسيين الذي أصبحوا يفكرون للهجرة إلى مدن منتعشة للبحث عن حياة كريمة تقيهم عذاب فاس و مسؤوليها .