كنت أتمنى لو أن الحكاية بدأت بسيدة حملت وهي كلها فرح وشوق وانتظار لمدة تسعة أشهر لاستقبال توأمها، لأن الطبيب أخبرها أنها حامل بتوأم، انتظرت و انتظرت، وجاء يوم المخاض، تحدت كل الظروف الصعبة وولدت في الطريق الى المستشفى داخل سيارة خاصة لأحد أقاربها، بعدا أن انقطع الأمل في سيارة الإسعاف لأن هواتف المكلفين بها كانت ترن و لا من مجيب، ولأن سوء حظها ألقى بها في بقعة منسية من المغرب العميق.
عذرا يا سيدتي، كان عليك الحمل في مدينة كبيرة كالرباط أو الدار البيضاء أو طنجة، ولو أنني لا أضمن لك هذه المدن نفسها ولادة مريحة ما دمنا نتحدث عن وضع صحي مترد، ومستشفيات يخيل للداخل إليها أن المغرب بعيش حالة حرب، رغم أن لازمة “الاستثناء المغربي” و “نعمة الأمن والأمان والاستقرار” لا تفارق ألسنة المسؤولين المغاربة!
اسمُ السيدة الراحلة “جميلة”، البالغة من العُمر ثمان وعشرين سنة، سيظلُّ “لعنة” تُطارد على الدّوام مسؤولي الصحة بإقليم تاونات حين سيرغبون في الحديث عن جودة خدمات القطاع الصّحي في بإقليم ترزحُ غالبية ساكِنته تحت نِـير الفقر، لكن، مَن تكون “جميلة”؟ وما هي قصّتُها التي أثارتْ وفاتُها نقاشاً عمومياً ما لبِثَ يتجدَّدُ بخصوص واقع الصحة بإقليم تاونات؟
“جميلة”.. ليستْ سوى سيدة مغربيةٍ كشفتْ وفاتُها “التراجيدية” صورةً سوْداويّة وقاتمةً للقطاع الصحّي بالإقليم، وعَرَّتْ بذلك حقيقة الأوضاع الاجتماعية التي يعيش يومياً على إيقاعها سكان في وطنٍ لمْ يُنصِفْهُم باعتبارهِم “مواطنين” لهم الحق في تطبيب وعلاجٍ لائقٍ بإنسانيّتهِم قبل مُواطَنَتهم.
“جميلة”، التي تنحدرُ من “المغرب غيْر النافع” أو “المغرب العميق” كما يُسَمُّونه، وتحديداً من دوار سيدي عبد الرحمان جماعة فناسة باب الحيط إقليم تاونات، كانت تعيش حياة طبيعية ولها طفلين، وبعد زيارتها للمركز الصحي بالمنطقة أخبرها الطبيب انها حامل بتوأم، و مرت تسعة أشهر و هي تنتظر اليوم الموعود لترى مواليدها الجدد لكن القدر كان له رأي اخر، وبعد اقتراب موعد الإنجاب وأحست بألم المخاض، ذهبت لمنزل أهلها، و حوالي الساعة الخامسة صباحا أحست بمخاض حاد، فاتصلت العائلة بسيارة الإسعاف لنقلها إلى دار الولادة بجماعة طهر السوق أو الى المستشفى الإقليمي بتاونات، وهكذا تكررت المحاولة لعدة مرات لكن دون جدوى، و حوالي الساعة الخامسة صباحا قررت العائلة نقل السيدة الى المستشفى الإقليمي بتاونات على متن سيارة خاصة لأحد الأقارب، حيث أنجبت السيدة في الطريق قبل الوصول الى المستشفى، فقررت العائلة إعادتها الى المنزل، لكن هناك وقع شيء لم يكن متوقع حيث أصيبت السيدة بنزيف حاد بدرجة شديدة، وبعد مدة قصيرة كانت “جميلة” قد سلمت الروح لبارئها.
وفاةُ “جميلة” لم تبقَ حبيسَة منطقتها، والتي عانت عقوداً من شتّى صنوف التهميش و الاقصاء والفقر واللاّعدالة اجتماعية، وإنما أشعلتْ لهيب الغضب الشعبي على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي؛ غضبٌ من المتوقّع أن تمتدّ آثاره إلى الشارع مع دعواتٍ توالتْ من بعض نشطاء المجتمع المدني إلى الاحتجاج على الوضع الصحي الكارثي الذي يعاني منه الإقليم.
أكيدٌ أنّ قصة وفاة “جميلة” ليستْ القصة الوحيدة التي تحكي “مأساة الصحة” بإقليم تاونات، كما أنها ليست أوّل وفاة مأساوية بسبب إهمال طبّي أو نقص في تجهيزات المستشفيات؛ فالمغربُ، ورغم كل الجهود المبذولة، ما زال يستقرّ في صدارة قائمة دول العالم التي تُسجَّل بها نِسَبٌ مرتفعة في وفيات الأطفال الرُّضع والأمهات.
و مهما تكن أسباب وفاة “جميلة” فإنها خلفت هذه النهاية الحزينة والمأساوية غضبا كبيرا في وسائل التواصل الاجتماعي، وطالب الجميع بمحاسبة المسؤولين عن هذا الإهمال الذي لا يمكن إلا أن يدفع أبناء مسقط رأس “جميلة” إلى النقمة على هذا التهميش الذي يطالهم، فوفاة “جميلة” لم تكن سوى النقطة التي أفاضت كأس الصبر على هذا التجاهل الذي يراه هؤلاء مقصودا، ومختلفا تماما عن الصورة التي يحاول المسؤولين رسمه للوضع العلاجي والاستشفائي في إقليم تاونات.