في قلب فاس العتيقة، وتحديدًا بساحة الاستقلال، يقف فندق البطحاء شامخًا، متأبطًا ذاكرة مدينة، وحاملاً على جدرانه بصمات حقب تاريخية متداخلة.
قد يبدو للبعض أنه مجرد منشأة سياحية ، لكنه في الحقيقة معلمة تحكي فصولًا من تاريخ المغرب الدبلوماسي والتراثي، لا يعرفها كثير من المواطنين، رغم أهميتها البالغة.

فندق البطحاء، الذي يُعدّ اليوم أحد أبرز المعالم الفندقية التقليدية بالعاصمة الروحية، لم يكن دائمًا كذلك. ففي أواخر القرن التاسع عشر، وبالضبط منذ سنة 1890، كان هذا الفضاء مقراً لأول قنصلية بريطانية بالمملكة المغربية، استمرت في أداء مهامها حتى سنة 1962 (72 سنة ) .
من داخل أروقته المورقة، صيغت المراسلات الدبلوماسية، وتبادل المسؤولون البريطانيون والمغاربة النقاشات حول مستقبل البلاد في زمن كانت فيه رياح الاستعمار تهب من كل اتجاه.
اليوم، وبعد أن آلت ملكيته إلى عائلة العماري البطاحي ، لا يزال الفندق يحافظ على هندسته التقليدية الأصيلة، بأقواسه المزخرفة، وأبوابه الخشبية الثقيلة، ونوافذه المطلة على مآذن فاس القديمة. فكل ركن فيه يهمس لك بسر من أسرار التاريخ، وكل زاوية تحكي عن فصول من مجد عمره أزيد من قرن .

ما يميز فندق البطحاء ليس فقط تاريخه الدبلوماسي، بل شعور الهيبة والرمزية الذي ينتابك عند دخول باحته أو الجلوس في أحد أروقته ، هو أكثر من فندق؛ هو أرشيف معماري مفتوح، وهوية تراثية تستحق أن تُصنف ضمن الذاكرة الجماعية للمدينة.
وفي زمن تتسارع فيه مشاريع التحديث وتغيب فيه العناية بمآثرنا المنسية، يظل فندق البطحاء شاهدًا صامتًا على مرحلة مفصلية من تاريخ المغرب، ومثالًا نادرًا على تزاوج السياسة بالتاريخ، والتراث بالحياة اليومية. مكان كهذا لا يجب أن يُرى فقط بعين السائح، بل يجب أن يُقرأ كوثيقة حيّة، تحفظها ساحة الاستقلال كما تحفظها ذاكرة فاس العتيقة.
فهل آن الأوان أن تلتفت الجهات المعنية إلى أهمية هذا الفضاء التاريخي؟ وهل تُدرج معالم كهذه ضمن المسارات التعليمية والثقافية حتى لا تظل غريبة في وطنها؟
فندق البطحاء بفاس ليس مجرد مبنى… إنه سردية مغربية، تستحق أن تُروى .
