سنوات طويلة من النضال والعمل الصحافي قضاها الزميل عبد العزيز بلمقدم بين القلم والميدان، يكتب بجرأة ويواجه بعزيمة، مؤمنًا برسالة الصحافة الحرة رغم ما واجهه من تضييق وظلم، ليس فقط من خصوم المهنة، بل حتى من بعض من كان يُفترض أن يكونوا أقرب المساندين.
وبين مطرقة الظلم وسندان الغدر، اختار بلمقدم طريق الغربة، تاركًا وراءه وطنًا يعشقه حدّ الألم، ليحطّ الرحال في الديار الهولندية، هناك حيث يعيد بناء ذاته على أنقاض خيباته، وحيث وجد في الغربة فضاءً أرحب للكرامة وللاستمرار.
هو ابن مدينة فاس، المدينة التي أنجبت رموزًا في الفكر والإعلام والسياسة، حمل بلمقدم قلمه منذ بداياته الأولى ليجعل منه أداة للدفاع عن الحقيقة، وعن صوت المواطن البسيط الذي لا يملك منبراً ولا نافذة للتعبير.
كان مؤمناً أن الصحافة ليست مهنة من لا مهنة له، بل رسالة ومسؤولية ووقوف دائم في وجه الفساد والعبث.
فقد عُرف عبد العزيز بلمقدم بمواقفه الصريحة وكتاباته الجريئة التي لم ترضِ دائماً أصحاب القرار ولا من اعتادوا على تلميع الوجوه، جرأته في الطرح ومقاربته النقدية للوقائع جعلت منه قلماً مزعجاً للبعض، ومرجعاً مهنياً للكثير من الشباب الصحافيين الذين رأوا فيه نموذجاً للصحافي الحر المستقل.
لكن الثمن كان غالياً. فبسبب تضييقات متعددة وضغوطات متواصلة، وجد نفسه مضطراً إلى مغادرة الوطن نحو الديار الهولندية، حيث استقرّ هناك وواصل نشاطه من موقع مختلف، محافظاً على ارتباطه الدائم بالمغرب وبقضاياه، وبكل ما يمس صورة بلده في الخارج.
الغربة، رغم قسوتها، لم تكسر عزيمته، بل صقلته أكثر. تحوّلت إلى مدرسة جديدة في التجربة والمعنى، جعلته أكثر نضجاً وإنسانية، وأقرب إلى جوهر المهنة في بعدها الكوني: نُصرة الإنسان، أيًّا كان مكانه.
ورغم كل ما عاشه من تضييق ومعاناة، ظل عبد العزيز بلمقدم عاشقًا لوطنه الأم حدّ الموت، لم تغادره يوماً حرارة الانتماء ولا الإيمان بعدالة بلده ومؤسساته.
غير أن بعض النفوس المريضة و الخبيثة حاولت عبر شكايات كيدية ووشايات مغرضة، زعزعة ثقته في المؤسسات الأمنية والقضائية التي يكنّ لها احتراماً كبيراً، من خلال حياكة ملفات مفبركة استهدفت النيل من سمعته وسمعة أسرته.
لكنّه، وبصلابة المؤمن بعدالة قضيته، واجه كل تلك العواصف بثبات وكرامة، موقناً أن الليل سينجلي و تشرق شمس الحقيقة التي لا بد أن تنتصر في النهاية، وأن الزمن كفيل بإنصاف أصحاب الضمائر الحية.
اشتغل الزميل عبد العزيز بلمقدم في عدد من المنابر الإعلامية الوطنية، الورقية منها والإلكترونية، وكان من أوائل الصحافيين الذين آمنوا بدور الصحافة الجهوية كقوة اقتراح ومساءلة، لا كمنبر للمجاملات.
كما عرف عنه الالتزام والجدية في العمل، وحضوره الدائم في الميدان، سواء في التغطيات أو التحقيقات أو مقالات الرأي التي تميزت بعمق التحليل وسلاسة الأسلوب وصدق الموقف.
و كان من الأصوات الداعية إلى إعادة الاعتبار للأخلاق المهنية في الحقل الصحافي، منتقداً الانزلاقات التي عرفها المشهد الإعلامي الوطني بفعل ضعف التكوين وتهافت البعض وراء المصالح الضيقة.
وراء الصحافي، هناك الإنسان: عبد العزيز بلمقدم، رجل بسيط في تعامله، صادق في مشاعره، متواضع في حضوره، لا يؤمن بالمناصب ولا بالألقاب، بل يؤمن أن الكلمة الصادقة هي أعلى وسام يمكن أن يُمنح للصحافي.
عرفته الساحة الإعلامية بوفائه لأصدقائه وزملائه، وبقدرته على دعم الجيل الجديد من الصحافيين، مشجعاً لهم على الإبداع والتجديد دون الخضوع لأي وصاية أو توجيه.
و رغم البعد الجغرافي، ظل بلمقدم متابعاً للشأن الوطني بكل تفاصيله، مساهماً من موقعه في نقد السياسات العمومية والإعلامية، ومدافعاً عن صورة المغرب في الخارج ضد كل حملات التشويه.
و هو اليوم من الأصوات المخلصة التي ما زالت تؤمن بأن التغيير ممكن، وبأن الصحافة الصادقة لا تموت مهما حاولت القوى المتنفذة إسكاتها.
و في الختام ، إن الحديث عن القيدوم الزميل عبد العزيز بلمقدم ليس مجرد استرجاع لمسار مهني حافل، بل هو استحضار لقيمة إنسانية ومهنية نادرة في زمن الارتباك الإعلامي، إنه ضمير حيّ في جسد المهنة، ورمز من رموز الصحافة الحرة التي آمنت أن خدمة الحقيقة واجب وطني لا يُختزل في حدود المكان أو الانتماء.
فمهما باعدت بينه وبين الوطن المسافات، يبقى عبد العزيز بلمقدم صوتاً مغربياً أصيلاً، وذاكرة مهنية شاهدة على مرحلة مليئة بالدروس والعبر، عنوانها الكبير:
“يمكن أن تُغادر الوطن، لكن لا يمكن أن تُغادر الرسالة ولا الحب الأبدي له.”






